الرحالة و المسافرون العرب

خاو سان رود : شارع لن تكتمل رحلة بانكوك دون زيارته

خاو سان رود | هل جربتم العيش في جيتو من قبل؟، أنتم مدعوون اليوم للقيام بهذه التجربة في الجيتو الأكثر انفتاحًا في العالم. هنا تتلاقى الثقافات والقوميات والأعراق والجنسيات والألوان واللغات، ليشكلون سويًا سبيكة هي الأكثر تنوعًا، وجيتو هو الأكثر انفتاحًا وسماحة وقبولًا لكل ما ومن هو مختلف. سبيكة من الرحالة والمسافرين الذين استطاعوا إليه سبيلا، فأتوه من كل فج عميق.. أهلًا بكم في خاو سان، قلب العاصمة التايلاندية النابض دومًا بالحياة.

الجيتو في تعريفه الشائع، هو مكان مغلق على مجموعة من البشر ذوي خلفية دينية أو عرقية محددة، يعيشون فيه طوعًا أو كرهًا، أما في خاو سان رود  فالأمر مختلف تمامًا، هو جيتو من نوع فريد، صحيح أن كل سكانه من الرحالة والمسافرين، وصحيح أن كلهم يسافرون إليه ويقيمون فيه طوعًا، إلا أن كل منهم جاء من ثقافة وقومية ولغة مختلفة عن الآخر، وكل منهم منفتح على الآخرين، ويشعر معهم وكأنهم أصدقاء منذ سنوات.

خاو سان رود في بانكوك

ليست المرة الأولى التي أزوره فيها، ولا المرة الأولى التي أسهر فيه حتى يقرر الليل النوم ويتركني فيه سهرانًا، إلا أنني وبكل صدق، في كل مرة أذهب إليه أشعر بفرحة طفل يبيت ليلة العيد محتضنًا ملابسه الجديدة التي ينتظر الصباح حتى يرتديها، ويذهب ليلعب ويلهو مع أقرانه، فيما يحلم بلعبته الجديدة. أنا الآن أحلم بما سأكتشفه جديدًا في هذا الشارع هذه المرة. أجلس خلف سائق موتوسيكل بعد ارتدائي خوذة الأمان الخضراء، فيما ترتسم على وجهي ابتسامة، وشريط ذكرياتي في الشارع يمر من أمامي.

لم أنتبه إلا بعد أن نبهني سائق الموتوسيكل أننا على رأس الشارع الأشهر في العاصمة بانكوك، دفعت الخمسون باتًا (دولار ونصف) بعد أن ترجلت، وهممت ببدء الجولة التي أعشقها، وإذ بالسائق ينبهني مرة أخرى أن ثمة شيء ما غير طبيعي، مشيرًا إلى الخوذة التي نسيتها فوق رأسي.

تشاينا تاون في بانكوك

تأخرت زيارتي له هذه المرة 3 أيام كاملة، قضيتها في هوستيل في الحي الصيني ببانكوك، دون خروج تقريبًا لأكتب ما تأخر من تقارير الرحلة، وهو الشارع الذي عادة ما أحجز في أحد الهوستيلز المنتشرين على جانبيه، في كل رحلاتي إلى العاصمة التايلاندية. وجودي في الحي الصيني، فرض علي مطبخ بعينه، صحيح أنني اعتدت تناول بعض أطباقه، إلا أن الأطباق العربية، حتى وإن لم أتناولها تمنحني إحساس ألذ من إحساس الشبع، هو الإحساس بالوطن البعيد القريب. هذا ما شعرت تمامًا عندما وجدت نفسي أمام عربة شاورمة في بداية شارع خاو سان.

لست من عشاق الشاورمة، لكن إقامتي في الحي الصيني، جعلت منها رمز للتنوع الثقافي في بداية الشارع، هذا التنوع الذي سرعان ما ستغرق فيه كلما توغلت بداخله.. هو غرق ممتع وغير مخيف على كل حال.

خاو سان رود ، الواقع في حي بانجلومبو غرب بانكوك، لا يزيد طوله عن كيلومتر واحد، إلا أنه تحول لمنطقة كاملة، بإضافة الشوارع المتفرعة منه إليه، والتي تحمل نفس طابعه، والتي يعرفها الرحالة بكل بساطة بأنها “خاو سان رود”، فالقضية ليست شارع أو حارة، القضية هي الطابع الثقافي والبهجة التي يتميز بها خاو سان وكل من جاوره من شوارع صغيرة.

خاو سان رود 
خاو سان رود

ليوناردو دي كابريو وقصة خاوسان رود

الشارع الذي يعد قبلة الرحالة في العالم دون منازع، قصة تطوره درامية بامتياز، الاسم يعني الأرز المضروب، والمعنى أن هذا الشارع كان مركز بيع الأرز في تايلاند، وأن يكون شارع مركز لبيع الأرز في أول دولة زرعت الأرز فهذا يشير إلى أهمية الشارع منذ تأسيسه. قد تكون البداية مختلفة تمامًا عما آل إليه الشارع حاليًا، فمن طابع محلي محض إلى طابع عالمي كوزموبوليتاني، إلا أن الأكثر اختلافًا عندما تحول الشارع في فترة لاحقة إلى شارع ديني.

نسبة انتشار البوذية في تايلاند هي الأعلى في العالم، وفيما يبدو أن انحسار تجارة الأرز في خاو سان، جعل بعض المحلات تفكر في بيع مستلزمات الرهبان، ما غير طبيعة الشارع تمامًا، وجعله شارع ديني بامتياز، يرتاده الرهبان لشراء مستلزماتهم. إلى هنا كان الشارع محلي بشكل كبير، حتى جاء عام 1982، ليكون بداية لتغيير جديد في طبيعة الشارع، حيث تم افتتاح أول جيست هاوس، ليعرف السياح طريقهم إلى الإقامة في خاو سان.

الانفراجة الكبرى في تاريخ ومسيرة شارع خاو سان كانت مع العام 2000، في هذا العام عُرض فيلم الشاطئ بطولة ليوناردو دي كابريو، والذي بدأ قصته من الشارع ذاته، ليتسابق الرحالة والمسافرون بعد ذلك على المكان، حتى أصبح على ما هو عليه اليوم.

ورغم أن الفيلم كان سببًا في ذيوع صيت الشارع بين المسافرين، إلا أن كون الفيلم مأخوذ من رواية الشاطئ للكاتب أليكس جارلاند، والتي صدرت عام 1996، والتي وصفه فيها بأنه مركز الرحالة العالمي، يعني أن الشارع أيضًا كان في هذا التوقيت وجهة هامة للمسافرين إلى بانكوك

قبلة الرحالة حول العالم

يفضل كثير من المسافرين إلى العاصمة التايلاندية، وأنا منهم، بدء رحلتهم من خاو سان رود، في رحلتي الأولى لبانكوك قبل سنوات، كنت أحمل هم وصولي إلى الشارع خاصة أن طائرتي ستصل في وقت متأخر من الليل، حتى إذا أنهيت إجراءات الوصول فوجئت بالحافلات تتوجه إلى الشارع مباشرة، بينها أتوبيس S1 الذي لا تتجاوز تذكرته الستون باتًا (دولارين تقريبًا).

خاو سان هو مكان مثالي للالتقاء والتعرف على أشخاص من دول وثقافات مختلفة، خاصة إذا كنت رحالة أو مسافر ذو ميزانية محدودة، ففي هذا المكان تستطيع بكل بساطة ترتيب رحلتك، أو محطتك أو لنقل محطاتك المقبلة، مع أشخاص يشبهونك تمامًا في طريقة سفرك، بل ومستعدون مشاركتك رحلتك لتقليل تكلفتها في بعض الأحيان. هؤلاء عادة ما تكون تايلاند مكانًا مثاليًا بالنسبة لهم للانطلاق إلى وجهات قريبة، مثل كمبوديا ولاوس وماليزيا وفيتنام، وكذلك وجهات داخل تايلاند نفسها.

مطاعم شارع خاوسان

يشتهر خاو سان بالمطاعم وعربات الطعام، أمتار قليلة ستفصلك بين كل مطعم والآخر، وخطوة أو أقل ستفصلك بين كل عربة طعام والأخرى. ثقافة الطعام في الشارع متنوعة بقدر تنوع زواره ومريديه، أطباق تايلاندية محلية، بيتزا وهامبورجر، وعصائر وفواكه استوائية، مطاعم عالمية شهيرة، وحتى العقارب والحشرات المقلية، إلى جانب الطبق الأشهر في المكان وهو البان كيك بالموز.

في خاو سان، عرفت التوم يام لأول مرة، جربتها ثم أدمنتها، هي شوربة آسيوية وتايلاندية بامتياز، غنية بالعناصر الغذائية، لما تحتويه من خضروات وأعشاب ومأكولات بحرية، بالنسبة لي هي مميزة جدًا بمذاقها الحار الذي أحبه، وكذلك تعد جسر بين المطبخين العربي والتايلاندي، ليست غريبة كثيرًا عن مطبخنا العربي، لكنها ستكون الطبق الذي ينقلك إلى تجربة أطباق أخرى في المطبخ التايلاندي.

البيرة هي المشروب الأكثر تداولًا في هذا الشارع، الذي لا تصطف البارات على جانبيه فقط، بل ما أن يحل المساء حتى تحتل الشارع بأكمله ويتركون حارة صغيرة للمشاة، الذين ستجد بينهم الكثيرين الذين يحملون زجاجات البيرة أو غيرها من المشروبات الكحولية الأخرى في أيديهم، ويتراقصون على أنغام الموسيقى الصاخبة الصادرة من هذا المكان أو ذاك.

المساج والتسوق في خاو سان

في خاو سان أيضًا نوع جديد من البارات، يمكن أن نطلق عليه البارات المحمولة، بالتأكيد ستكون أرخص سعرًا من المشروبات في البارات الأخرى، فلا مقاعد ولا عروض موسيقية ولا حتى مكان، هي مجرد آيس بوكس، به زجاجات ومعلبات البيرة، وعربة صغيرة عليها زجاجات مختلفة لعمل المشروبات الكحولية المختلفة.

مراكز المساج والعناية بالجسد والتاتو ورسم الحنة، لها نصيب بالتأكيد في شارع خاو سان رود

أنواع مختلفة ومتعددة من المساج، منها مساج القدمين، والرقبة، والرأس، والظهر، والأكتاف، والجسد بالكامل، إلى جانب المساج باستخدام الزيوت التقليدية، وكما تختلف أنواع المساج تختلف الأسعار أيضًا، إلا أنها عادة ما تبدأ من 150 بات (5 دولار تقريبًا). في خاو سان، ستجد بعض مراكز المساج، تضع أمامها الكراسي المريحة الأشبه بالأسرة، وقد استلقى عليها بعض المسافرين، فيما تنهمك فتيات تايلانديات في تدليك أقدامهم، في نوع من الدعاية، وكذلك بسبب الازدحام داخل هذه المراكز.

بائعات الهوى لهن نصيب أيضًا في الشارع، وكلمة السر هي “مساجي”، أي مساج، ستعرفهن تمامًا من طريقة العرض ونظرة العين ونبرة الصوت، بالطبع هن يقصدن نوع آخر من جلسات المساج ليس من بين الأنواع الأخرى التي ذكرناها.

ليس فقط وجهة للمرح وجلسات المساج والطعام، لكن خاو سان أيضًا وجهة هامة جدًا للتسوق، الشارع بدون مبالغة مكتظ بمحلات التحف وعربات الملابس، وخاصة الملابس التايلاندية الشهيرة بنقشاتها المختلفة التي يتربع الفيل على عرشها جميعًا. في محلات التحف ستجد العديد من تماثيل بوذا ومجسمات لأفيال ونمور، والعديد من الهدايا التذكارية إلى جانب حقائب السفر المختلفة، وفي بحر الطريق نفسه ستجد بعض سيدات كبار في السن يرتدين زي تايلاندي تقليدي، ويبعن مشغولات يدوية.

الحياة في خاو سان رود
الحياة في خاو سان رود

رحلة مجانية من خاو سان رود

مركزية خاو سان رود  في برامج معظم من يسافر إلى بانكوك دفع الحكومة التايلاندية إلى الاهتمام به أكثر، حتى افتتحت مركزًا للشرطة في نهاية الشارع، والحقيقة أن هذا المركز لي معه قصة: في رحلتي الأولى إلى بانكوك قبل 3 أعوام، فوجئت بمن يعرض علي صباح اليوم الأول عدد من البرامج السياحية، مؤكدًا أن المواصلات مجانًا، بالطبع أدركت أنني ضحية محتملة لعملية نصب تجري وقتها.

قلت له: طالما أن كل شيء مجاني فلما لا تمنحني هذه الخريطة مجانًا هي الأخرى، طلب مني الانتظار ودخل مركز الشرطة وأحضر لي خريطة مجانية، وظهر معه شرطي تايلاندي، كنت مستاء جدًا، كيف للشرطة أن تسهل عمل “نصابًا”، وإذ بالشرطي يحدد لي برنامج سياحي على الخريطة ويوقف توك توك، ويطلب منه تنفيذ البرنامج مجانًا تمامًا، والغريب أن هذا ما حدث بالفعل.

أهم كيلومتر في بانكوك

في هذه الرحلة، قضيت 10 أيام كاملة في بانكوك بشكل مجاني تمامًا، الطعام مجانًا، الفواكه، العصائر، الأماكن السياحية، المواصلات، حتى قص الشعر والعلاج وغيرهم. كانوا يصطفون في الشوارع ويقدمون كل هذه الخدمات، ترحمًا على ملكهم بوميبول أدوليادج، الذي تزامنت رحلتي مع رحيله.. هذا الطقس شبيه بطقس يقوم به المصريون منذ آلاف السنوات حتى الآن، وهو توزيع بعض المخبوزات عند المقابر ترحمًا على موتاهم، ونسميها في مصر “رحمة ونور”.

على كل حال، سيبقى هذا الكيلومتر في قلب العاصمة بانكوك، بتفرعاته، هو أهم كيلومتر في رحلات كل مسافر، وخاصة كل من سافر إلى تايلاند، بأضوائه وألوانه، والهوستيلز والفنادق متوسطة الأسعار، كذلك البارات، المطاعم، مراكز المساج، الوكالات السياحية، البازارات، محلات التاتو، وغيرهم، والأهم من كل هذا وذاك، كونه جيتو للرحالة والمسافرين، لا يوجد له مثيل تقريبًا في العالم.

إذا ذهبت إلى شارع خاو سان فتأكد أنك سيكون لك ذكرى في هذا المكان، هو مكان مناسب لبناء ذكريات، أتوقع أنها ستكون سعيدة.

اترك تعليقا